بين الحين والآخر تظهر رواية تفضى إلى عالم جديد ليس عبر كشف ما هو غريب؛ بل عبر كشفها لما هو إعتيادى. هكذا كتب أورويل فى إحدى مقالاته، وهذا ما أؤمن به بشدة، بل أجد ان كتابة القصص العادية أصعب بكثير من حشو النص بالغرائب والأهوال.
العادى هو ان تقرأ عنك، عما تمر به فى يومك، عن أزمات حياتك ومحاولاتك، هو تلك الصعاب التى نعيشها، والآلام والتخبط والتيه الذى نمر به يوميا.. وهنا يصبح الكاتب امام تحدٍ عظيم لا ينجح فيه سوى كاتب بارع وواثق، ان تكتب قصصا عادية بطريقة غير اعتيادية وتتميز فيها! هنا تكمن المعضلة.
فى رواية بول أوستر صانست بارك، لن تجد شيئا خارقا، ولا احداث غريبة او شخصيات متفردة، يعتمد أوستر فى حبكته على الصدفة والموت الفجائى والأزمات التى تعصف بالأسرة، انت وانت تقرأ لأوستر لن تجده يستعرض الاحداث، ولن تجد نصا دراماتيكيا او محاولات للدفع بالإثارة والتشويق، بل أغلب الأحداث المؤثرة تُحكى من الماضى لا تحدث امامك.
ستجده مهوسًا بالموت الفجائى، الصدفة التى تغير الحياة، الحزن القاتم الذى يقود الاحداث ويدير الدفة.
هكذا كان الحال فى رواية كتاب الأوهام وصانست بارك، رغم اختلاف الاحداث إلا انك تجد الموت الفجائى والحزن العميق دافعًا ومقوّما اساسى فى الروايتين.
تبدأ أحداث الرواية فى عام ٢٠٠٨ أى فى ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى مر بها العالم.
مايلز هيلر، شاب يائس، يشغل مهنة غريبة، وهى تنظيف وجمع الأغراض من البيوت التى طُرد منها اصحابها لعجزهم عن سداد قيمة الرهن للمصارف.
مايلز هارب من ماضيه ومآسيه وتعقيدات حياته الأسرية.
بعدما كان ناجحا فى دراسته، سعيدا فى جامعته ومتخم بالآمال؛ تنقلب حياته بعد حادث مأساوى وقع صدفة، حيث كان يسير مع ابن زوجة ابيه والذى يعتبره اخوه فهما يعيشان فى نفس البيت، يدور شجار بينهما، فيدفعه مايلز، وبالصدفة تأتى سيارة وتصدم الولد فيموت، كما ذكرت سلفا الصدفة هنا تلعب دورا رئيسيا حتى اخر الرواية يركز اوستر على احداث صغيرة عفوية تحدث بالمصادفة وإذا بكل شىء يتغير ويتداعى.
يظل مايلز سجين الندم محطما، يحمل سر هذه الدفعة على عاتقه، فيقرر الابتعاد، الهروب من كل شىء، من بيته وحياته وبلدته ويبعد نفسه عن كل شىء.. فقط وظائف غريبة يائسة يشغلها والقراءة فى الكتب، الكتب التى يؤمن انها ضرورة لا ترفا.
فى هذه الرواية يأخذنا اوستر لرحلة فى اوحال أمريكا، الصورة التى لا تظهر ابدا عن التداعى والتفكك والازمات الطاحنة التى تعصف بالمجتمع الأمريكى، حتى ان اوستر يبدو حانقا غاضبا، معارضا لسياسات امريكا، كوحشية ضباط الشرطة فى تنفيذ الأوامر وحالة الجنود العائدين من حرب العراق.. يثير قضايا المتعددة عبر سرده المتناغم لحكايات ابطاله بشكل غير مباشر، سردا مبهر، متواصل، ينقلك بين شخصيات الرواية الكثيرة، وجميعهم تربطهم علاقة بالبطل مايلز؛ حبيبته، عائلته اصدقاءه، شركاء السكن ...
وبواسطة سارد عليم، يحكى اوستر قصصهم المختلفة.. آلامهم وطموحاتهم.. عذاباتهم ودواخلهم. وكيف تأثروا بالأزمة الإقتصادية.
لا تنتظر وانت تقرأ الرواية ان تجد ما يبهرك، حتى تطور الأحداث لا تشعر به، وهذا من سلبيات اسلوب اوستر المتبع، لا تشعر ان هناك ما سيحدث، وحتى فى ذروة الأحداث تجد النص يخلو من الدراما.
تنتهى الرواية فينتابك شعور ان هناك شىء ناقص، لم تتم الإجابة عنه.
قوة السرد هو ما انجح الرواية، فأنت تكمل مستمتعا، متعمقا فى احداث عادية دون ان تنتظر شيئا وانسكاب السرد هذا وتتابع القصص يسليك ويشغلك وتتحمس احيانا متفاعلا مع الشخصيات.
فى النهاية اكثر ما يميز الرواية، هو انها اعطت صوتا لشخصيات مهمشة، للقلق والندم، فردت مساحة من الأخطاء البشرية، ومحاولات لتصحيح هذه الأخطاء.. مساحة من التورط.. التداعى، ثم محاولات العودة مرة اخرى، اعطت مساحة للمهمشين والمرتبكين واحيانا غريبى الأطوار فى ان يعبروا عن انفسهم، يعرضوا مبرراتهم ودوافعهم.